الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٣

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٤

ناصِحُونَ) القصص : ١٢ ، فإن الضمير فى (له) يحتمل أن يكون موسى ، وأن يكون لفرعون.

* * *

(٤١) التورية :

وهى أن يتكلم المتكلم بلفظ مشترك بين معنيين قريب وبعيد ، ويريد المعنى البعيد ، ويوهم السامع أنه أراد القريب ، ومثاله قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) الرحمن : ٦ ، أراد بالنجم : النبات الذى لا ساق له ، والسامع يتوهم أن المراد الكوكب ، لا سيما مع تأكيد الإيهام بذكر الشمس والقمر.

والفرق بينها وبين الاستخدام ، أن التورية استعمال أحد المعنيين فى اللفظ وإهمال الآخر ، وفى الاستخدام : استعمالهما معا بقرينتين.

* * *

(٤٢) التوسع :

وهو أنواع :

١ ـ الاستدلال بالنظر فى الملكوت ، كقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) البقرة : ١٦٤.

٢ ـ التوسع فى ترادف الصفات ، كقوله تعالى : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) النور : ٤٠.

٣ ـ التوسع فى الذم ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) القلم : ١٠ ، ١١ ، إلى قوله تعالى : (عَلَى الْخُرْطُومِ) القلم : ١٦.

* * *

٦١

(٤٣) الجمع :

١ ـ إطلاقه وإرادة الواحد ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) المؤمنون : ٥١ ، فهذا خطاب للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، إذ لا نبى معه ولا بعده.

٢ ـ وضع جمع القلة موضع الكثرة ، إذ الجموع يقع بعضها موقع بعض لاشتراكها فى مطلق الجمعية ، كقوله تعالى : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ) سبأ : ٣٧ ، فإن المجموع بالألف والتاء للقلة ، وغرف الجنة لا تحصى.

* * *

(٤٤) جمع القرآن :

ولقد مات رسول الله والقرآن كله مكتوب على العسب ـ جريد النخل ـ واللخاف ـ صفائح الحجارة ـ والرقاع والأديم والأكتاف ـ عظام الأكتاف ـ والأقتاب ـ ما يوضع على ظهور الإبل ـ كما كان محفوظا فى صدور الرجال يحفظه حفظة من المسلمين.

وقيل أن يقبض الله رسول إليه عارض الرسول ما أنزله عليه ربه بسوره وآياته على ما حفظه عنه حفظة المسلمين ، فكان ما فى صدور الحفظة صورة مما كان فى صدر الرسول.

وكان لا بد لهذا المكتوب على الرقاع وغيرها من أن يعارض على المحفوظ فى الصدور ليخرج من بينهما كتاب الله فى صورة مقروءة ، كى يفيد منه الناس جميعا على تعاقب الأزمان ، فما تغنى الرقاع ، ثم هى عرضة إلى بلى وتشتّت ، وما يغنى الحفظة وهم إلى فناء والناقلون عنهم ليس لهم ميزة المعاصرة.

ويحرك الله المسلمين لهذه الحسنة حين استحر القتل يوم اليمامة بقراء القرآن ، فيخف عمر بن الخطاب إلى أبى بكر ، وكان عندها خليفة ، وكان الذى استخف عمر إلى أبى بكر فزعه من أن يتخطف الموت القراء فى مواطن أخرى ، كما تختطفهم

٦٢

فى ذاك الموطن ـ أعنى اليمامة ـ فيضيع على المسلمين جمّاع دينهم ، ويعز عليهم كتابهم.

وحين جلس عمر إلى أبى بكر أخذ يناقشه فيما أتى إليه من جمع القرآن ، بعد أن بسط السبب الحافز ، وتلبث أبو بكر يراجع نفسه ، ثم أرسل إلى زيد بن ثابت ، وكان من كتاب الوحى ، وحضر زيد مجلس أبى بكر وعمر وسمع منهما ما هما فيه ، فإذا هو معهما فى الرأى ، وإذا أبو بكر حين يجد من زيد حسن الاستجابة يتجه إليه يقول : إنك شاب عاقل لانتهمك ، وقد كنت تكتب الوحى لرسول الله ، فتتبع القرآن اجمعه.

ومضى زيد يتتبع القرآن يجمعه ويكتبه ، وكان زيد حافظا ، فيسر عليه حفظه عبأه شيئا ، ولكنه كان إلى هذا لا يقنع فى إثبات الآية يختلف فيها إلا بشهادة.

واجتمعت هذه الصحف فى بيت أبى بكر حياته ، ثم فى بيت عمر حياته.

* * *

وكما حركت محنة اليمامة عمر إلى حسنة ، حركت محنة أخرى ـ بعد مقتل عمر ـ عثمان إلى حسنة ، فقد قدم حذيفة بن اليمان من حرب أرمينية وأذربيجان على عثمان فزعا من اختلاف المسلمين فى قراءة القرآن ، يقول لعثمان : أدرك الأمة قبل أن يختلفوا.

وكما استجاب أبو بكر إلى عمر استجاب عثمان إلى حذيفة ، فأرسل عثمان يطلب الصحف من عند حفصة بنت عمر وزوج النبى. وأرسلت حفصة بالصحف إلى عثمان ، وجمع عثمان إليه زيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، وسعيد بن العاص ، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وكلهم من كتاب الوحى ، وأمرهم بنسخ هذه الصحف. فكتبوا منها سبع مصاحف ، ثم رد عثمان الصحف إلى حفصة. فلم نزل عندها حتى أرسل مروان بن الحكم بن أبى العاصى فأخذها فحرقها ، كما ذكر أبو بكر السجستانى.

٦٣

ويقول أبو بكر السجستانى فى مكان آخر بسند متصل عن سالم بن عبد الله : إن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التى كتب فيها القرآن ، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها. قال سالم : فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ، ليرسلن إليه بتلك الصحف ، فأرسل بها إليه عبد الله ابن عمر ، فأمر بها مروان فشققت. فقال مروان : إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب فى شأن هذه الصحف مرتاب ، أو يقول : إنه قد كان شىء منها لم يكتب.

ولا قدرى إلى أى حد كان توفيق مروان فيما فعل ، ولكنه ، وهو الرجل الذى كان معاصرا لما وقع ، كان عليه أن يطمئن إلى أن الأمر قد تم على أحسن ما يكون دقة وضبطا ، وما نظنه غاب عنه كيف احتاط عثمان لذلك ، وما نظنه إلا كان شاهد عثمان وهو يخطب الناس يناشدهم أن يأتوه بما معهم من كتاب الله ، وكان عهدهم بالنبى قريبا ، إذ لم يكن مضى على وفاته أكثر من ثلاث عشرة سنة ، وما نظن الناس إلا قد وفوا لعثمان وجاءه كل رجل بما كان عنده ، فلقد كان الرجل يأتيه بالورقة والأديم فيه القرآن.

ولقد جمع من ذلك عثمان الشيء الكثير. وما وقف عثمان عند هذه ، بل لقد دعاهم رجلا رجلا ، فيناشده : لسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو أملاه عليك؟ فيقول الرجل : نعم ، حتى إذا فرغ من ذلك قال : من أكتب الناس؟ فقال الناس : كاتب رسول الله زيد بن ثابت. قال عثمان : فأى الناس أعرب؟ قالوا : سعيد بن العاص ـ وكان سعيد أشبههم لهجة برسول الله ـ قال عثمان : فليمل سعيد وليكتب زيد.

هذا كله فعله عثمان ، وفعل إلى جانبه الاستئناس بالصحف التى تم جمعها فى عهد أبى بكر وشارك فيها عمر ، والتى كانت عند حفصة ، تلك الصحف التى مثلت المصحف الأول المعتمد.

٦٤

من أجل هذا لم يختلف زيد بن ثابت وسعيد بن العاص فى شيء ، ووجدا ما اجتمع لهما من قبل على يد أبى بكر وعمر هو هو الذى جمعه عثمان ثانية واستحلف الناس عليه.

ويحكى المؤرخون أن زيدا وسعيدا لم يختلفا إلا في حرف واحد فى سورة البقرة ، فقال سعيد (التابوت) وقال زيد (التابوة) واختيرت قراءة سعيد ابن العاص ، لأن القرآن نزل بلسان قريش.

وأرسل عثمان ستّا من هذه المصاحف إلى مكة والشام واليمن والبحرين والبصرة والكوفة ، وحبس مصحفا بالمدينة ، وأمر عثمان فحرق ما كان مخالفا لمصحفه.

وسيجىء بعد فى رسم المصحف : أن على بن أبى طالب كان له مصحف باسمه ، أعنى كان إليه جمعه ، وأنه بعد موت النبى كان قد أقسم ألا يرتدى برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن فى مصحف ، ففعل.

وينقل أبو بكر السجستانى بسند متصل عن أشعث عن ابن سيرين ، أنه حين تخلف عن بيعة أبى بكر أرسل إليه أبو بكر يقول له : أكرهت إمارتى يا أبا الحسن؟ فقال على : لا والله ، إنى اتسمت ألا أرتدى برداء إلا لجمعة ، فبايعه ثم رجع.

ثم يقول أبو بكر : لم يذكر «المصحف» أحد إلا أشعث ، وهو لين الحديث ، وإنما : حتى أجمع القرآن ، يعنى أتم حفظه.

غير أن ابن النديم ـ فيما سيجىء بعد ـ يذكر أنه رأى عند أبى يعلى حمزة الحسنى مصحفا سقطت منه أوراق بخط على بن أبى طالب يتوارثه بنو الحسن ، ثم أورد ترتيب السور فيه ، وسرّى هذا (فى رسم المصحف).

ولقد كان إلى مصحف على مصاحف أخر مرت بك ، هى مصحف أبى ، ومصحف ابن مسعود ، ومصحف ابن عباس ، وكان ثمة مصاحف أخرى هى : مصحف أبى موسى الأشعرى ، ومصحف للمقداد بن الأسود ، ومصحف لسالم ، مولى أبى حذيفة.

ولقد كانت هذه المصاحف موزعة فى الأمصار ، فكان أهل الكوفة على مصحف

(ـ ٥ ـ الموسوعة القرآنية ـ ج ٣)

٦٥

ابن مسعود ، وأهل البصرة على مصحف أبى موسى الأشعرى ، وأهل دمشق على مصحف المقداد بن الأسود ، وأهل الشام على مصحف أبى بن كعب.

وكان ثمة خلاف بين هذه المصاحف ، وهذا الخلاف هو الذى شهد به حذيفة حين كان مع الجيش فى فتح أذربيجان ، وهذا الخلاف هو الذى فزع من أجله عثمان فنهض يجمع أصول القرآن ، ويجمع إلى هذه الأصول الحفظة الموثوق بهم.

فنحن الآن بين مراحل ثلاث مر بها تدوين المصحف.

أولى هذه المراحل تلك التى كانت فى حياة النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلقد كان من حوله كتابه يكتبون ما يملى عليهم ، وكان الرسول حريصا على ألا يكتب عنه غير القرآن حتى لا يلتبس به شىء آخر ، ويروون عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : لا تكتبوا عنى شيئا سوى القرآن ، فمن كتب عنى شيئا سوى القرآن فليمحه.

ولم يترك رسول الله دنياه إلى آخرته إلا بعد أن عارض ما فى صدره على ما فى صدور الحفظة الذين كانوا كثرة ، وحسبك ما يقال عن كثرتهم أنه فى غزوة بئر معونة قتل منهم ـ أى من القراء ـ سبعون ـ ثم حسبك عن كثرتهم أنه كانت منهم سيّدة ، هى أم ورقة بنت عبد الله بن الحارث : وكان رسول الله يزورها ويسميها الشهيدة ، وكانت قد جمعت القرآن ، وقد أمرها رسول الله أن تؤم أهل دارها.

ثم حسبك دليلا على أن القرآن كتب فى حياة الرسول ، وأنه كتب فى صحة وضبط ، ما رواه البراء مع نزول قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) النساء : ٩٤ ، قال الرسول : ادع لى زيدا ، ثم قال : اكتب «لا يستوى» ، أى إن الرسول كان يملى على كاتبه لساعته.

ثم لعلك تذكر فى إسلام عمر أن رجلا من قريش قال له : أختك قد صبأت ـ أى خرجت عن دينك ـ فرجع إلى أخته ودخل عليها بيتها ولطمها لطمة شج بها وجهها. فلما سكت عنه الغضب نظر فإذا صحيفة فى ناحية البيت فيها «بسم الله الرحمن الرحيم (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

٦٦

الحديد : ١ ، واطلع على صحيفة أخرى فوجد فيها : بسم الله الرحمن الرحيم (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى)» طه : ١ ، فأسلم بعد ما وجد نفسه بين يدى كلام معجز ليس من قول بشر.

فهذه وتلك تدلانك على أن الكتاب كانوا يكتبون بإملاء الرسول ، وأن هذا المكتوب كان يتناقله الناس.

والثانية من تلك المراحل ما كان من عمر مع أبى بكر حين استحر القتل بالقراء فى اليمامة ، وما انتهى إليه الرأى بين أبى بكر وعمر فى أن يكلا إلى زيد بن ثابت جمع المصحف ، لتكون معارضة بين ما هو مكتوب فى الألواح وبين ما هو محفوظ فى الصدور ، قبل أن تأتى المواقع على حفظة القرآن ، فما من شك في أن الاثنين يكمل أحدهما الآخر ، لمن أراد أن يبلغ الكمال والدقة والضبط.

وما يمنع من هذا الذى فكر فيه عمر أن يكون هناك جمع سابق على يد نفر من الصحابة ، مثل ما فعل على ، ومثل ما فعل ابن مسعود ، ومثل ما فعل ابن عباس ، ومثل ما فعل غير هم.

وما كان هذا يغيب عن عمر ، ولكن كان ثمة فرق بين ما فكر فيه عمر وما سبق بعض الصحابة به ، فلقد كان الرأى عند عمر أن يبادر فى ظل وجود القراء إلى إيجاد مصحف رسمى يصدر بتكليف من الخليفة ، والخليفة أقوى على حشد الجهود العظيمة لهذا العمل العظيم.

ولقد أحس زيد بثقل المهمة التى أرادها عمر وأرادها معه أبو بكر ، فأبو بكر وعمر لم يريدا عملا فريديّا يحمل عبأه فرد واحد ، وإنما أرادا عملا جماعيّا تحمل عبأه الخلافة وباسم الخلافة يصدر.

من أجل ذلك قال زيد : فو الله لو كلفونى نقل جبل من الجبال ما كان بأثقل على مما كان أمرونى به من جمع القرآن.

ومن أجل ذلك مضى زيد يتحرى ، لم يكتف بما فى صدره وما بين يديه ، بل

٦٧

لقد تلمس آية يفقدها فوجدها عند رجل من الأنصار يدونها ، وهى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) الأحزاب : ٢٣.

ومن أجل ذلك قال أبو بكر لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت : اقعدا على باب المسجد فمن جاء كما بشاهدين على شىء من كتاب الله فاكتباه.

ومن أجل ذلك لم يقعد زيد عن السعى ليجد آخر المطاف آخر سورة التوبة مع خزيمة بن ثابت.

إذن فلقد كان مصحف أبى بكر وعمر أول مصحف رسمى جمعه زيد بن ثابت لهما فى ظل هذا التحرى الدقيق ، الذى كان أبو بكر وعمر من ورائه ، غير أن هذا المصحف الرسمى لم يأخذ طريقه الرسمى إلى الأمصار ، ولعل مقتل عمر هو الذى أخر ذلك.

والمرحلة الثالثة والأخيرة هى المرحلة التى تمت على يد عثمان. وكانت تتمة للمرحلة الرسمية التى بدأت فى عهد أبى بكر وشاركه فيها عمر ، فلقد وقع الذى كان يخشاه عمر ، والذى فكر من أجله فى هذا الجمع الرسمى ، وعجل به القتل عن أن يمضى فيه إلى آخره.

فلقد مر بك كيف استقل كل مصر بمصحف ، وكانت مصاحف فردية لم يجتمع لها ما اجتمع لمصحف أبى بكر الذى انتهى إلى حفصة ، ثم انتهى إلى عثمان ، من جهد جماعى مستوعب ، ولقد سعى «على» جهده ، وسعى «أبى» جهده ، وسعى «ابن عباس» جهده ، ولكن هذه الجهود لو تلاقت كما تلاقت حياة أبى بكر وعمر لخضعت لتعديل كثير ، ودليلنا على ذلك أنه لما خرج إلى الأمصار مصحف عثمان دان الناس لتحريره قبل أن يدينوا لسلطان الخليفة ، وما يستطيع أحد أن يظن بالمسلمين اللين والضعف على أن يقفوا لأقوى الخلفاء يلزموه رأيهم إن كانوا يعرفون أنه الحق ، ولكن انصياع المسلمين فى الأمصار كلها لمصحف عثمان ، وما كان عثمان بالعنيف ، يدلك على أن المصحف العثمانى خرج من إجماع اطمأنت القلوب إليه.

٦٨

ويروى أبو بكر السجستانى بسند متصل عن «على» فى المصاحف وحرق عثمان لها : «لو لم يصنعه عثمان لصنعته».

ولقد كان «على» صاحب مصحف اختفى بظهور مصحف عثمان ، ولكن هذا لم يمنعه من نصرة الحق الذى جاهد من أجله حياته كلها.

والذى قبله «على» قبله «ابن مسعود» ، وقبله بعد هذين كثيرون من الصحابة.

يروى أبو بكر السجستانى بسند متصل عن مصعب بن سعد ، قال : أدركت الناس متوافرين حين حرق عثمان المصاحف ، فأعجبهم ذلك ولم ينكر ذلك منهم أحد.

وما أجل هذه التى فعلها عثمان ، وحسبه عنها ما يرويه أبو بكر السجستانى بسند متصل عن عبد الرحمن بن مهدى يقول : خصلتان لعثمان بن عفان ليستا لأبى بكر ولا لعمر : صبره نفسه حتى قتل مظلوما ، وجمعه الناس على المصحف.

وحسبك أن تعلم أن الحال فى اختلاف الناس لم تكن أيام عثمان فى الأمصار دون المدينة ، بل شملت المدينة أيضا ، فلقد كان المعلمون فيها لكل معلم قراعته ، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون ، فكان هذا لعثمان ، إلى ما بلغه من حذيفة ، مما أفزعه وجعله يقوم بين الناس خطيبا ويقول : أنتم عندى مختلفون فيه فتلحنون ، فمن نأى عنى من الأمصار أشد فيه اختلافا وأشد لحنا ، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماما.

من أجل هذا سمى مصحف عثمان : الإمام.

وقد أرسل عثمان من هذا المصحف نسخا للأمصار ـ كما مر بك ـ وأمر بأن يحرق ما عداها.

ويحيك ابن فضل الله العمرى فى كتابه مسالك الأبصار وهو يصف مسجد

٦٩

دمشق : «وإلى جانبه الأيسر المصحف العثمانى بخط أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضى الله عنه».

ومعنى هذا أن المصحف كان بدمشق حياة العمرى ؛ أى النصف الأول من القرن الثامن الهجرى ، فلقد كانت وفاة العمرى سنة ٧٤٩ ه‍.

ويرجح المتصلون بالتراث العربى أن هذا المصحف هو الذى كان في دار الكتب بمدينة ليننجراد ثم انتقل منها إلى إنجلترا ، ولا يزال بها إلى اليوم.

ويروى السفاقسى فى كتابه «غيث النفع» : «ورأيت فيه ـ يعنى مصحف عثمان ـ أثر الدم وهو بالمدرسة الفاضلية بالقاهرة».

ولقد كان فى دار الكتب العلوية فى النجف مصحف بالخط الكوفى مكتوب فى آخره ، كتبه على بن أبى طالب فى سنة أربعين من الهجرة ، وهى السنة التى توفى فيها على.

ولقد كتب نفر من السلف كتبا عرضوا فيها للمصاحف القديمة التى سبقت مصحف عثمان. والتى جاء مصحف عثمان ملغيا لها ، نذكر منها :

١ ـ اختلاف مصاحف الشام والحجاز والعراق ، لابن عامر ، المتوفى سنة ١٨٨ ه‍.

٢ ـ اختلاف مصاحف أهل المدينة وأهل الكوفة وأهل البصرة. عن الكسائى ، المتوفى سنة ١٨٩ ه‍.

٣ ـ اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام فى المصاحف ، للغراء ، المتوفى سنة ٢٠٧ ه‍.

٤ ـ اختلاف المصاحف لخلف بن هشام ، المتوفى سنة ٢٢٩ ه‍.

٥ ـ اختلاف المصاحف وجامع القراءات ، للمدائنى ، المتوفى سنة ٢٣١ ه‍.

٦ ـ اختلاف المصاحف ، لأبى حاتم سهل بن محمد السجستانى ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه‍.

٧٠

٧ ـ المصاحف والهجاء ، لمحمد بن عيسى الأصبهانى ، المتوفى سنة ٢٥٣ ه‍.

٨ ـ المصاحف ، لأبى بكر عبد الله بن أبى داود السجستانى ، المتوفى سنة ٣١٦ ه‍.

٩ ـ المصاحف ، لابن الأنبارى ، المتوفى سنة ٣٢٧ ه‍.

١٠ ـ المصاحف ، لابن أشتة الأصبهانى ، المتوفى سنة ٣٦٠ ه‍.

١١ ـ غريب المصاحف ، للوراق.

ولقد انتهى إلينا من هذه الكتب كلها كتاب المصاحف لأبى بكر عبد الله بن أبى داود السجستانى. وقد نقلت منه نصوصا وأشرت إلى مواضعها من النسخة المطبوعة من هذا الكتاب.

ويكاد يكون كتاب أبى بكر السجستانى جامعا لكلام من سبقوه ، لتأخره فى الزمن عنهم ، وما أظن من بعده أضاف كثيرا ، أعنى بهذا أن كتاب أبى بكر السجستانى يكاد يمثل لنا هذا الخلاف كله.

وعثمان لم يقدم على ما فعل إلا حين فزعه من الخلاف ، ولم يمض ما أقدم عليه إلا بعد أن اطمأنت نفسه إلى ما انتهى إليه ، ولم يطمئن إلى اطمئنانه إلا بعد أن آزرته عليه الكثرة ، وبعد هذا كله وقف عثمان موقفه الحازم القاطع فألزم الأمصار بالمصحف الإمام ، ثم حرق ما عداه. ومعنى هذا أنه لا رجعة إلى هذا الخلاف ولا سبيل إلى الرجعة إليه ، إذ لو صح أن ثمة شك قد انتهى إليه عثمان لما كان منه هذا القرار الحازم القاطع.

ولعلك تذكر ما كان من مروان من إحراقه مصحف حفصة الذى كان مرجعا من مراجع المصحف الإمام ، ولقد كان سنده ، غير أنه أراد من هذا ألا يكون ثمة رجعة إلى الوراء تثير هذا الخلاف فى كتاب قال فيه تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) الحجر : ١٢.

وثمة أشياء ثلاثة أثارتها كتب المصاحف أحب أن أعرضها وأذكر أى فيها :

٧١

أولها : ما يعزى إلى عثمان بن عفان عن قتادة ويحيى بن يعمر من أنه رضى الله عنه لما رفع إليه المصحف قال : إن فيه لحنا وستقيمه العرب بألسنتها.

وهذا الحديث لا يحب أن يمر دون أن يضم إليه حديث ثان يعزى إلى عثمان أيضا عن عكرمة الطائى يقول : لما أتى عثمان رضى الله عنه بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال : لو كان المملى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.

ولقد مر بك أن عثمان اختار حين كتب مصحفه رجلين ، هما : زيد بن ثابت ، وكان أكتب الناس ، وسعيد بن العاصى ، وكان أفصح الناس ، وأشبههم لهجة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وما كانت تغيب عن عثمان ، ولا عمن كانوا مع عثمان ، يوم شمروا لكتابة المصاحف ، هذه الاختلافات فى الرسم الإملائى التى ظهرت بعد كتابة المصحف ، وتمنى عثمان لو لم تكن حين قال : لو كان المعلى من هذيل والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا.

ثم كيف ترد هذه التى وردت فى الحديث الأول عن عثمان ، وهو الذى كان من وراء من يكتبان ، يراجع ما يكتبانه حرفا حرفا وكلمة كلمة ويصلح ما فاتهما ، وما نظن عثمان ونى فى هذا العبء ولا فتر ، وهو يعلم جده وخطره ، وهو يعلم المتحفزين به من وراء ذلك على عمل حمل عبئه على الرغم منهم.

اللهم إن ثمة شيئا لا ندفعه ، وهو ما جاء فى المصحف الإمام من رسم قديم كان مظنة اللبس ، ورأى عثمان أن ألسنة العرب تقيمه على وجهه ، وإن بدا على غير وجهه ، فلم يعرض له. ولعل هذا هو تفسيرا ما جاء على لسان عثمان فى حديثه ، إن صح أنه له ، يؤيدنا على ذلك حديثه الثانى الذى عقبت به.

ويفسر هذا قول ابن أشتة فى كتابه «المصاحف» : جميع ما كتب خطأ يجب أن يقرأ على صحة لغته لا على رسمه ، وذلك فى نحو (لا أوضعوا) و (لا أذبحنه) بزيادة ألف فى وسط الكلمتين. إذ لو قرئ بظاهر الخط لكان لحنا شنيعا ، يقلب معنى الكلام ويخل بنظامه.

٧٢

ويؤبده وضوحا أبو بكر السجستانى من قبل ابن أشتة ، حيث يقول فى كتابه المصاحف ، هذا عندى يعنى : بلغتها ـ يريد معنى قوله بألسنتها ـ وإلا لو كان فيه لحن لا يجوز فى كلام العرب جميعا لما استجاز أن يبعث به إلى قوم يقرءونه.

ويؤيد هذا ما روى عن عمر بن الخطاب : «إنا لنرغب عن كثير من لحن أبى». يعنى : لغة أبى.

وثانيها : ما يعزى إلى عائشة ، يرويه هشام بن عروة عن أبيه ، قال : سألت عائشة عن لحن القرآن : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) طه : ٦٣ ، وعن قوله تعالى : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) النساء : ١٦٢ ، وعن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ) المائدة : ٦٩ ، فقالت : يا ابن أختى ، هذا عمل الكتاب ، اخطئوا فى الكتاب.

ومثل هذا الذى عزى لعائشة يعزى لأبان بن عثمان يرويه الزبير يقول : قلت لأبان بن عثمان : كيف صارت (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) ما بين يديها وما خلفها رفع وهى نصب؟ قال : من قبل الكتاب ، كتب ما قبلها ثم قال : ما أكتب؟ قال : «اكتب : المقيمين الصلاة» فكتب ما قيل له.

وينضم إلى هذا ما يعزى إلى سعيد بن جبير أنه قال : فى القرآن أربعة أحرف لحن : (وَالصَّابِئُونَ) ، (والمقيمون) ، (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) ، (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ).

وقبل أن أقول كلمتى أحب أن تأنس معى بقول عالم جليل من علماء التفسير واللغة ، وما أبغى أن أضم إليه غيره لأثقل عليك.

يقول الزمخشرى محمود بن عمر فى كتابه «الكشاف» : (وَالصَّابِئُونَ) ـ المائدة : ٦٩ ، رفع على الابتداء ، والنية به التأخير عما فى حيز «إن» من اسمها وخبرها ، كأنه قيل :

٧٣

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك. وأنشد سيبويه شاهدا له :

وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا فى شقاق

أى : فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك. فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل «إن» واسمها؟ قلت : لا يصح ذلك قبل الفراغ من الخبر ، لا تقول : إن زيدا وعمرو منطلقان. فإن قلت : لم لا يصح والنية به التأخير. فكأنك قلت : إن زيدا منطلق وعمرو؟ قلت : لأنى إذا رفعته عطفا على محل «إن» واسمها ، والعامل فى محلهما هو الابتداء ، فيجب أن يكون هو العامل فى الخبر ، لأن الابتداء ينتظم الجز أين فى عملهما ، كما تنتظمهما «إن» فى عملها ، فلو رفعت «الصابئون» والمنوى به التأخير بالابتداء ، وقد رفعت الخبر بأن ، لأعملت فيهما رافعين مختلفين. فإن قلت : فقوله : (وَالصَّابِئُونَ) معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو؟ قلت : مع خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) ولا محل لها ، كما لا محل للتى عطفت عليها. فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة ، فما فائدة هذا التقديم؟ قلت : فائدته التنبيه على أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالا وأشدهم غيّا ، وما سموا صابئين إلا لأنهم صبئوا عن الأديان كلها ، أى خرجوا ، كما أن الشاعر قدم قوله : «وأنتم» تنبيها على أن المخاطبين أوغل فى الوصف بالبغاة من قومه ، حيث عاجل به قبل الخبر الذى هو «بغاة» لئلا يدخل قومه فى البغى قبلهم ، مع كونهم أوغل فيه منهم وأثبت قدما. فإن قلت : فلو قيل : والصابئين وإياكم ، لكان التقديم حاصلا؟ قلت : لو قيل هكذا لم يكن من التقديم فى شىء ، لأنه لا إزالة فيه عن موضعه ، وإنما : يقال مقدم ومؤخر ، للمزال لا للقار فى مكانه ، ومجرى هذه الجملة مجرى الاعتراض فى الكلام.

وقال الزمخشرى : (وَالْمُقِيمِينَ) النساء : ١٦٢ ، نصب على المدح ولبيان فضل الصلاة ، وهو باب واسمع ، وقد كسره سيبويه على أمثلة وشواهد ، ولا يلتفت إلى

٧٤

ما زعموا من وقوعه لحنا في خط المصحف ، وربما التفت إليه من لم ينظر فى الكتاب ولم يعرف مذاهب العرب ، وما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان وغمى عليه أن السابقين الأولين الذين مثلهم فى التوراة ومثلهم فى الإنجيل ، كانوا أبعد همة فى الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا فى كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم ، وخرقا يرفوه من لحق بهم.

وقيل : هو عطف على (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) ، أى يؤمنون بالكتاب وبالمقيمين الصلاة ، وهم الأنبياء. وفى مصحف عبد الله (والمقيمون) بالواو ، وهى قراءة مالك بن دينار ، والجحدرى ، وعيسى الثقفى.

وقال الزمخشرى : (وَأَكُنْ) المنافقون : ١٠ ، عطفا على محل (فَأَصَّدَّقَ) ، كأنه قيل : إن أخرتني أصدر وأكن. ومن قرأ (وأكون) على النصب ، فعلى اللفظ. وقرأ عبيد بن عمير (وأكون) على : وأنا أكون ، عدة منه بالصلاح.

وقال الزمخشرى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ، طه : ٦٣ ، قرأ أبو عمر : إن هذين لساحران ، على الجهة الظاهرة المكشوفة ، وابن كثير وحفص : إن هذا لساحران ، على قولك : إن زيد لمنطلق. واللام هى الفارقة بين أن النافية والمخففة من الثقيلة. وقرأ أبى : إن ذان إلا ساحران. وقرأ ابن مسعود : أن هذان ساحران ، بفتح إن وبغير لام ، بدل من «النجوى». وقيل فى القراءة المشهورة ـ وهو يعنى المصحف الإمام ـ إن هذان لساحران ، هى لغة بلحارث بن كعب ، جعلوا الاسم المثنى نحو الأسماء التى آخرها ألف ، كعصا وسعدى ، فلم يقلبوها فى الجر والنصب. وقال بعضهم : «إن» بمعنى : نعم ، و «ساحران» خبر مبتدأ محذوف واللام داخلة على الجملة ، تقديره : لهما ساحران. وقد أعجب به أبو إسحاق.

ومن هذا ترى أن القراءات السبع فى القرآن ، لغات للعرب جاءت مبثوثة فى القرآن ، وبها كلها يتجه الكلام.

ثم إن ما جاء منسوبا إلى عثمان فقد قدمت دفعى له وتأويله ، ويحضرنى هنا بعد

٧٥

عرض آراء الزمخشرى أن اللحن الذى جاء على لسان عثمان مراد به توجيه الكلام توجيها ليس على ظاهره ، وأن المراد بتقويم الألسنة أو اللغات له : بيان الوجه المراد معه ، هذا إن صح ما نسب إلى عثمان.

وأما ما جاء منسوبا إلى عائشة ، فما أظن عائشة تسكت على خطأ الكتّاب فى كتاب الله وترضى به يشيع ويخرج عن المدينة إلى الأمصار ، ولم تكن بعيدة عن عثمان ولا عن الصحابة الكاتبين ، وما أظنها كانت أقل منهم حرصا على سلامة كتاب الله. وحسبك ما قدمه الزمخشرى فى هذه.

وأما عن تلك التى ينسبونها لأبان بن عثمان ، فلا أدرى كيف جاءت على لسانه ، مع العلم بأنه ممن لم يشهدوا عصر التدوين ، ولا كان حاضرا ذلك ، فلقد كانت وفاته سنة ١٠٥ ه‍ ، وعثمان مات سنة ٣٥ ه‍.

وبعد. فهذا الذى نسب إلى أبان استنباط لا رواية مأثورة ، وهذا الاستنباط الذى استنبطه أبان لا يصح إلا عن مشاهدة أو سماع عن مشاهدة. وكلاهما لم يتوفر لهذا الحكم.

وثالث الأشياء التى أردت ألا أسكت عنها : هو ما يعزوه أصحاب التواليف فى المصاحف إلى الحجاج بن يوسف ، وأنه غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا ، وقد رواها أبو بكر السجستانى فى كتابة المصاحف مرتين.

الأولى يقول فيها : حدثنا عبد الله : حدثنا أبو حاتم السجستانى : حدثنا عباد ابن صهيب ، عن عوف بن أبى جبلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا.

والثانية يقول فيها : قال أبو بكر ـ يعنى نفسه ـ كان فى كتاب أبى : حدثنا رجل. فسألت أبى : من هو؟ فقال : حدثنا عباد بن صهيب ، عن عوف بن أبى جبلة : أن الحجاج بن يوسف غير فى مصحف عثمان أحد عشر حرفا.

٧٦

وهذه هى الأحرف كما ذكرها أبو بكر السجستانى :

١ ـ كانت فى البقرة (لم يتسن) فغيرها (لَمْ يَتَسَنَّهْ) الآية : ٢٥٩ ، وأحب أن أعقب أن ابن مسعود قرأ (لم يتسن) والأصل فيها (يتسنن). فقلبت لأن الثانية حرف علة ، كما فى : تقضض ، وتقضى. وقرأ حمزة والكسائى بحذف الهاء فى الوصل ، على أنها هاء السكت ، وقرأ باقى السبعة بإثبات الهاء فى الوصل والوقف ، على أنها أصلية. وقرأ أبى (لم يسنه) بإدغام التاء فى السين.

٢ ـ وكانت فى سورة المائدة : (شريعة ومنهاجا) فغيره (شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) الآية : ٤٨.

وأحب أن أعقب أن هذه لم يقرأ بها أحد من القراء.

٣ ـ وكانت فى سورة يونس : (هو الذى ينشركم) فغيره : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) الآية : ١٠.

وأحب أن أعقب أن (يبشركم) قراءة ابن عامر ويزيد بن القعقاع ، «وينشركم» ، أى يحييكم.

٤ ـ وكانت فى سورة يوسف (أنا آتيكم بتأويله) فغيرها : (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ) الآية : ٤٥.

وأحب أن أعقب أن هذه ، لم يقرأ بها أحد من القراء.

٥ ـ وكانت فى سورة المؤمنون : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) فغيرها : (سيقولون الله) الآيتان : ٨٧ ، ٨٩.

وأحب أن أعقب أن الأولى هى القراءة المشهورة ، وقرأ بالثانية أبو عمرو ، ويعقوب.

٦ ، ٧ ـ وكانت فى سورة الشعراء : (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) الآية : ١١٦ ، فغيرها. (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) و (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) الآية : ١٦٧ ، فغيرها (مِنَ الْمُخْرَجِينَ).

وأحب أن أعقب أن هذه وتلك هما القراءتان المشهورتان.

٨ ـ وكانت فى سورة الزخرف : (معايشهم) فغيرها : (مَعِيشَتَهُمْ) الآية : ٣٢.

وأحب أن أعقب أن هذه هى القراءة المشهورة ، ولم يقرأ بالأولى أحد من القراء.

٧٧

٩ ـ وكانت فى سورة الذين كفروا : (ياسن) فغيرها (آسن) الآية : ١٥.

وأحب أن أعقب أن حمزة قرأ (ياسن) وقفا لا وصلا ، وأن (آسن) هى القراءة المشهورة.

١٠ ـ وكانت فى سورة الحديد : (فالذين آمنوا منكم واتقوا) فغيرها (وَأَنْفِقُوا) الآية : ٧.

وأحب أن أعقب أن القراءة المشهورة (وَأَنْفِقُوا) ولم يقرأ أحد من القراء (واتقوا).

١١ ـ وكانت فى سورة التكوير : (وما هو على الغيب بظنين) فغيرها (بِضَنِينٍ) الآية : ٢٤.

وأحب أن أعقب أن مكيّا ، وأبا عمرو ، وعليّا ، ويعقوب ، قرءوا (بظنين) ، أى : متهم ، وأن الباقين قرءوا : (بضنين) أى : ببخيل.

هذه هى الأحرف التى يروى أن الحجاج غيرها فى مصحف عثمان.

وأحب أن أزيد الأمر وضوحا ولا أتركه على إبهامه هذا الذى يثير شكّا ، ويكاد القول فيه على ظاهره يعطى للحجاج أن يغير فى كتاب الله :

١ ـ لقد رأيت كيف روى أبو بكر السجستانى هذا الخبر فى كتابه «المصاحف» فى مكانين بسندين ، هما وإن اتفقا إلا أن ثانيهما رواه أبو بكر فى أسلوب يهون فيه من شأن المسند إليه الخبر.

٢ ـ ولقد رأيت من هذا التعقيب الذى عقبنا به على هذه الأحرف ، أن ثمانية منها تحتمل قراءات ، وأن ما أثبته الحجاج كان المشهور.

٣ ـ ولقد رأيت أن ثلاثة منها لم يقرأ بها أحد من القراء ، وهى (شريعة) التى غيرت إلى (شرعة) و (آتيكم) التى غيرت إلى (أنبئكم) و (معيشتهم) التى غيرت إلى (معايشهم).

٧٨

وأحبك أن تعرف :

١ ـ أن الحجاج كان من حفاظ القرآن المعدودين.

٢ ـ وأن الحجاج كانت على يديه الجولة الثانية فى نقط المصاحف وشكلها ، بعد أن كانت الجولة الأولى على يد الصحابة ، وكانت جولة الصحابة بداية لم تشمل القرآن كله بل كانت نوعا من التيسير.

يقول الدانى فى كتابه المحكم فى نقط المصاحف ، بسند متصل عن قتادة : بدءوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا ، وهو يعنى الصحابة. ثم يقول إثر هذا : هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين هم المبتدءون بالنقط ورسم الخموس والعشور.

وفى الجولة الثانية خلاف ، فمن الرواة من يعزوها إلى أبى الأسود الدؤلى ، بعد أن طلبها منه زياد.

ومنهم من يعزوها إلى يحيى بن يعمر العدوانى ، وكان ذلك عن طلب الحجاج ، ويقول : إن هذا هو الأعرف.

وما نظن الحجاج ، وهو الحافظ للقرآن ، كان بعيدا عن يحيى بن يعمر ، كما لم يكن عثمان بعيدا عن زيد بن ثابت وسعيد.

وإذن نستطيع أن نقول :

١ ـ إن هذه الأحرف الثلاثة التى لم يقرأ بها أحد لم تكن منقوطة ولا مشكولة فميزها النقط وبينها ، وكانت على ألسنة الناس كما كانت على لسان الحجاج ، بدليل أنها لم ترد فى قراءة ، ولا أدرى كيف قامت هذه دعوى

٢ ـ إن الأحرف الثمانية الباقية ، وفيها قراءات كما مر بك ، والمشهور منها ما يعزى إلى الحجاج أنه أثبته. ولكن من أنى لنا أن هذا الذى يقال إن الحجاج أثبته لم يكن ، وأن رسم مصحف عثمان كان يحتمله ، وأن الحجاج لم يفعل غير أن بينه وميزه.

٧٩

يحدونى إلى هذا ما روى من أن عثمان حين كان يعرض عليه المصحف غير (لم يتسن) إلى (يتسنه) ، إذن فالذى يعزى إلى الحجاج أنه فعله عزى إلى عثمان أنه فعله من قبله ، ولا يمنع أن يكون هذا كله ـ أعنى الأحرف الثمانية ـ كانت مقروء مصحف عثمان ، وأن الحجاج حسين نقط وشكل ميز الرسم وبينه ، يستوحى فى ذلك من مقروئه مقروء الناس الذين يقرءون بقراءة مصحف عثمان.

إذن فلا تغيير للحجاج فى كتاب الله ، ثم ما أهون مدلول ما نسبوه إلى الحجاج ، وهل كان بعد هذا غير تبيين رسم وتمييزه ، وما أظن الحجاج خرج فيها على مصحف عثمان بقراءة أخرى ، بل أكاد أؤكد أنه التزم فيها مقروء مصحف عثمان ، وأنه لم يفعل غير التمييز والتبيين ، بدليل تلك التى سقتها عن (لم يتسن) و (لم يتسنه) ، وأن الحجاج فيما فعل كان حريصا على أن يمكن للمصحف الإمام ، وأن ينفى عنه ما عساه أن يكون دخل عليه من قراءات.

* * *

(٤٥) الجملة :

١ ـ التفسيرية : وهذه لا يحسن الوقف على ما قبلها دونها ، لأن تفسير الشيء لا حق به ومتمم له ، وجار مجرى بعض أجزائه ، كالصلة من الموصول ، والصفة من الموصوف ، ومنه قوله تعالى : (يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ) البقرة : ٤٩ ، فجملة (يُذَبِّحُونَ) وما بعده تفسير.

٢ ـ لبيان العلة والسبب ، قوله تعالى : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) يس : ٧٦ ، فهذه ليست من كقولهم وإلا لما حزن الرسول ، وإنما جىء بها لبيان السبب فى أنه لا يحزنه قولهم.

٣ ـ إبرازها فى صورة المستحيل على طريق المبالغة لتدل على بقية الجمل ، كقوله تعالى : (وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) الأعراف : ٤٠ ، والجمل لا يلج فى السم فهؤلاء لا يدخلون ، فهو فى المعنى متعلق بالحال ، فالمعنى : أنهم لا يدخلون

٨٠